فضائيات تنشر التفكير الخرافي .. دجل فضائي.. هل من رقيب?
الكاتب/المصدر: جريدة الثورة (14/6/2007)
عندما اتصلت بدا من صوتها أنها عاجزة عن كل شيء.. الأفق أمامها مسدود وبدا أنها تشعر بآلام جسدية لا تطاق لم ينفع معها علاج..
جاءها الصوت عبر التلفزيون صوت (شيخة) متفردة في نوعيتها وفي فهمها, وفي قدراتها الخارقة, وفي كراماتها التي لا تحصى كما حاولت أن توحي المذيعة إضافة للصفات الخارقة التي لا يمكنها أن تتواجد في بشر!
والغريب أن المتصلة بدأت بالبكاء وبدا صوتها المتهدج وكأنه قد وصل إلى شاطىء الأمان وكأنه قد وقع بين أيد أمينة لا هم لها سوى مساعدته, كما تؤكد (الشيخة)!! وتكراراً أنها لا تنام الليل وهي تفك التسليط عن المتصلين أو تطرد الجان!!
فهل يوجد ابتزاز أبشع من ذلك حين يتم استغلال آلام الناس ومعاناتهم وأمراضهم ويأسهم من أجل الربح باسم الحرية والتعبير ولا أحد قادر على فعل شيء مع تلك الفضائيات التي تروج للفكر الخرافي, وتسرق جيوب الناس علناً, وتمارس الشعوذة وتسيء للدين!
المؤسف في الأمر أن الاتصالات لا تنقطع وهذا يعني الكسب ومزيداً من الكسب.. والعجيب أن كل من اتصل بهم تأتيه بشراهم بشفائه القريب من جميع أسقامه ومصائبه.
فكرة أمثال هذه البرامج تقوم على جذب المشاهد للسحرة ومفسري الأحلام عن طريق مشاهدة التلفاز بدلاً من الدخول بهم في سراديبهم المظلمة, والاتصال بهم عبر الايميلات ورسائل الجوال ليحكي عن مشكلته التي تدور بين المرض المستعصي, وتأخر الزواج, والعقم, والرغبة في معرفة المستقبل..
هذه باختصار نوعية البرامج التي تقدمها قنوات مثل: كنوز, شهرزاد,.. الذي يمتد من كونه برنامجاً إلى فترة بث القناة.
وتكمن خطورة هذه الفضائيات أنها تروج للسحر والشعوذة, وبعضها يستخدم غطاء دينياً, ويخلط بين أمور الشعوذة وآيات القرآن لإيهام المشاهدين أنه لا تعارض بين ما يقومون به من دجل وسحر وشعوذة, وبين الدين, قائلين: أليس السحر مذكوراً في القرآن?!
وإذا تساءلنا عن أسباب انتشار فضائيات الدجل والشعوذة هذه فإنها تعود لأسباب عدة أهمها ضرب هذه القنوات على الوتر الحساس لكثير من الناس الضعفاء والجهلاء وحتى المثقفين الذين يكونون في حالة يأس ويريدون أن يتعلقوا بأمل في هذه الحياة بسبب مرض أصابهم أو مصيبة حلت بهم واتصالهم بمثل هؤلاء الدجالين يعد بالنسبة لهم الأمل الأخير.
أكثر المستجيبين لهذا النوع من التفكير الخرافي النساء, بسبب الجهل الثقافي والديني والسياسي والاجتماعي, وعدم الفهم الحقيقي لمشكلاتهم, وكلما زادت الضغوط الاقتصادية والاعلامية والاجتماعية والنفسية والخلافات الزوجية على الشخص أدت إلى عدم الثقة والاصابة بحالات القلق, خاصة عند النساء لأنهن أكثر عرضة لهذه المؤثرات, ولزوالها يلجأن إلى أي وسيلة غير علمية للتخلص من هذه الأمراض ولو عن طريق هؤلاء المشعوذين.
ويزداد الإيمان بالخرافة كلما زادت الضغوط والآلام, ومن الواضح أن نطاق التفكير اللاعلمي يتسع في بلادنا العربية والدليل آلاف الرسائل التي تعرض على شاشات التلفزيون والهواتف المشغولة دوماً, والجدل الذي تثيره بين مؤيد ومعارض لوجودها.
هذه النوعية من البرامج ذات الجماهيرية الكبيرة لها نوعان من الجمهور, الأول: مؤمن بها ويبحث عنها رغبة في معرفة المزيد من أسرار هذا العالم الخفي, وهذا النوع من الجمهور يغيب عقله بشكل متعمد ويصدق كل ما يحدث أمامه دون تفكير فيه أو مناقشته.
والثاني: غير مؤمن به ولكنه يشاهده من باب الفضول والتسلية, وقد يشارك فيه ويقنع نفسه بأنه لم يقع فريسة للدجل ولكنه في قرارة نفسه يتمنى أن يصدق الدجال ويعطيه معلومة تفيده عن مستقبله.
لقد درج المحللون على تقسيم البشر إلى قسمين, الأول: يتبنى التفكير العلمي في حياته, والآخر يعيش على الغيبيات والخرافة, ومن يتبنى التفكير العلمي يرفض الخرافة بكل أشكالها وأنواعها, بينما يرفض القسم الآخر قبول المنطق العقلاني على أساس أنه يقيد روح الإنسان.
والهدف المعلن لهذه البرامج يتنافى مع الهدف الحقيقي المتمثل في الحصول على ثمن مكالمات المواطنين وجذب الإعلان وابتزاز أموال الناس بالاتصالات التليفونية الباهظة الثمن للمشاركة في برامجها, وظهور الدجالين والنصابين من السحرة وقراء الكف والنجوم والأبراج والحظ على هذه القنوات.
تبدو المشكلة أيضاً في أن المشعوذين والدجالين والخارجين على القانون يستغلون الخيال والغيبيات لصالحهم, ويشوهون العلم باحتيالهم ونصبهم, ولو أن هؤلاء يرغبون حقاً في تقديم خدمة للمواطنين لخصصوا أرقام هواتف مجانية للاتصال.. لو فعلوا ذلك لاقتنعنا فعلاً بأن هذه الشركات تريد تقديم خدمة للجماهير.
الشعوذة هنا إنما تكيف كل تقدم علمي وتكنولوجيا لصالحها, وتحارب وتنفي كل الثقافات الأخرى وتكون عائقاً لتطور المجتمع وتقدمه وتبقيه في حالة من الخمول العقلي والكسل الذهني والغيبي والوهم والتخلف, لكن في الوقت نفسه يحاصر التقدم العلمي والتكنولوجي الخرافة والغيبيات, ويجعلها في حدود الثقافات الفرعية فهي في حالة صدام مستمر بين العلم والخرافة.
يتم ذلك في فضاء يوفر قنوات الشعوذة لجمهور عربي يعاني ضغوطاً حياتية لا تعد ولا تحصى في ظل موروث ثقافي سلبي تتسيد قنوات الشعوذة والدجل وقراءة الطالع على إيهامه بالتخلص منها.
إن هذا الأمر أكثر من مشكلة, إنه يشكل خطراً حقيقياً ينبغي مواجهته بشتى الوسائل قبل أن يزداد الأذى وتكبر المعاناة وبازديادهما تكثر أموال اولئك المحتالين الذين لا شك أنهم حسبوها جيداً عندما عرفوا أن العالم العربي يصرف سنوياً على الدجل والشعوذة المليارات التي لا شك أنها ستأتي إلى جيوبهم دونما عناء!!